“ها أنا ذا، استيقظ في السادسة صباحاً مع عدة أفكار إيجابية داخل دماغي، تود أن تنفض وتنتفض على غبار السلبية القاتل (سواء بالمعني الحرفي أو المجازي)، اعتزم ممارسة الرياضة أو المشي على ضفاف النيل الذي أسكن بالقرب منه، اتناول كوبي المفضل من القهوة الفرنسية مع إفطار صحي، امارس بعض الطقوس اليومية الروتينية من استحمام وترتيب غرفتي، حتى أجهز لبدء يوم جديد من عملي، أكاد أسمع صوت أنفاسي المتحمسة المتلهفة لبدء العمل، أجهز مكتبي، افتح حاسوبي اللوحي؛ لكن، ما هذه الضوضاء؟ احاول التركيز من جديد، وانظر إلى عملي الذي أعرف أنني متفوقة فيه؛ لكن لا يبدو أن أصابعي يمكنها كتابة كلمة واحدة، وعقلي لا يفقه هذه اللغة المكتوبة، وروحي أصبحت مثقلة من جديد، وعوضاً عن حماسي، فإنني استمع إلى دقات قلبي العالية المتلاحقة، التي تعبّر عن إحساسي باليأس. لكن الأسوأ من هذا الإحساس، هو معرفتي أنني مازالت على سريري، هل استسلمت من جديد، أم ماذا أصابني؟”، هذه الحالة من الاحتراق الوظيفي يمر بها 40% من كل عشرة آلاف موظف، وفقاً لاستطلاع رأي حديث، وتصل النسب إلى 80% في بعض المجالات مثل الرعاية الصحية والتصنيع.
إنه الاحتراق الوظيفي، وهو حالة من الإرهاق البدني والعاطفي والذهني التي تنتج عن الإجهاد المفرط والضغط المستمر في العمل وعدم التوازن بين العمل والحياة الشخصية. وعندما ذكرت سابقاً عن الضوضاء، فما كانت سوى ضوضاء أفكاري ومحاولتي لنفض غبار السلبية القاتل، ففي واقع الأمر، تعتبر السلبية نتيجة حتمية للاحتراق الوظيفي. “هل أنا جيّد بما فيه الكفاية؟ هل لدي ما يلزم للاستمرار في مجال عملي؟ ماذا عليّ أن أفعل لأطوّر من قدراتي؟ كيف ضعفت إنتاجيتي هكذا؟ لماذا لا انتمي إلى مكان عملي؟ لماذا غاب عني الأصدقاء؟”، هذا نوع من الأسئلة المتكرر لدى المصابين بالاحتراق الوظيفي، وهناك أيضاً بعض التعليقات الأخرى مثل: “معدتي تؤلمني لكنني جائع ولا استطيع العمل”، “لا اتمكن من التركيز الآن”، “أريد النوم حالاً”، “وكأنني أريد أن أظل في هذه الوظيفة للأبد”.
من هنا، لا يتذكر العقل كيفية العمل لصالح صاحبه، بل تغلبه السلبية. ويعتبر التفكير السلبي مرضاً منتشراً بين الأجيال، إذ تشمل القوالب النمطية الشائعة رؤية جيل البومرز (Baby Boomers) على أنهم مقاومون للتغيير، وجيل الألفية (Millennials) على أنهم متطلبون، وجيل زد (Gen Z) على أنهم يعتمدون بشكل مفرط على التكنولوجيا. هذه القوالب النمطية يمكن أن تعزز السلبية. وتعدد أضرار التفكير السلبي لتشمل الصحة الجسدية والنفسية على حد سواء، ما يؤثر بالضرورة في حياتنا المهنية.
من قلق وصداع واضطرابات النوم ومشاكل الجهاز الهضمي إلى انعدام الثقة في النفس والعزلة الاجتماعية والإرهاق المستمر والاكتئاب، وتطول اللائحة التي يمكنها أن تزيد من رصيد الأمراض التي يمكن أن يتسبب فيها التفكير السلبي الناتج عن الاحتراق الوظيفي، حتى يصبح الفرد غير قادر على التحرك صباحاً من سريره، وإذا تحرّك فإنه لا يستطيع العمل بكفاءة وفقاً لمهاراته المعهودة، أو سينعكس الأمر على إنتاجيته فلا يتمكن من تحقيق إنجازات في عمله.
لكن المصاب بالاحتراق الوظيفي قد يظن أن الأمر يتعلق بالإنتاجية لذلك يسعى إلى تقديم أداء متوسط وفقاً لأقل ما يُطلب منه. بالعودة إلى عام 2011، قدّمت النجمة كاميرون دياز فيلماً بعنوان Bad teacher. في هذا الفيلم، كانت الإشاعات تحيط بشخصية إليزابيث هولزي التي تقوم بدورها دياز، فما هذه الإشاعات؟ أعربت زميلتها في العمل عن رأيها في طريقة التدريس التي تتبعها هولزي، موضحة أنها قد تقدّم أقل ما يمكن لضمان استمرارها في الوظيفة أو ما يعرف باسم Bare Minimum. هذه الحالة من تقديم أقل قدر من المجهود بما يجعله مقبولاً ليس حالة من الاحتراق الوظيفي، بل هو استسهال في العمل، وقد يكون احتراق نفسي ناتج عن رغبة هولزي في جني الأموال بشتى الطرق دون الالتزام بعمل محدد أو اكتشاف قدراتها.
لماذا هذا الفيلم؟ لأنه بكل بساطة يسلط الضوء على إمكانية وجود الخير من الشر، أو المهارة من البلاهة. إذن، كيف يمكنك أن تستعيد ثقتك بقدراتك التي عملت سنوات على تنميتها وتطويرها؟ّ!
إذا كانت هولزي تمكنت من معرفة نقاط قوتها واستغلالها ما يسّر حياتها المهنية والشخصية، فكيف يمكنك أن لا تتمكن من الإمساك بزمام أمور حياتك؟ الفيلم ليس مجرد دراما عابرة، فهناك العديد من الأفلام التي تقدمها السينما العالمية بهدف تطوير الذات، لكن ركّز على هذه الشخصية التي ذهبت إلى القاع بإرادتها لأنها لم تدرك أهمية مهاراتها واستطاعت النجاة. وإذا كنت تفكّر أن هذه الحالة من الاحتراق الوظيفي، قد يمكن تجنبها بأقل مجهود، فإن المجهود يقل يومياً مع خسران الطاقة والثقة في النفس. فأين الملاذ؟
لمعرفة الملاذ الآمن للنجاة من براثن الاحتراق الوظيفي، هناك بعض الأمور التي يجب أن تتبعها لكن يجب في البداية أن تعرف أسباب إصابتك به.
أسباب الإصابة بالاحتراق الوظيفي
إن كنت تفكر أن العبء الثقيل في العمل هو السبب، أنت محق، لكن ليس تماماً. أحد الأسباب الأكثر شيوعاً للإصابة بالاحتراق الوظيفي هو وجود كمية كبيرة من العمل للتعامل معها. عندما تكون محملاً بالمهام الصعبة والمسؤوليات، ووفقاً لاستطلاع أجرته Deloitte، أشار 29% من الموظفين إلى أن العمل لساعات طويلة أو في عطلات نهاية الأسبوع بشكل مستمر كان سبباً رئيسياً للاحتراق الوظيفي.
لكن يمكنك العمل لساعات إضافية، في حالة وجود مكافآت مادية أو عينية، فهذا الإحساس من التقدير المهني، ينعكس على سلوكيات صاحبه بالعمل الجاد وزيادة الإنتاجية. فأرباب العمل والمدراء الذين يعرفون أهمية الموظف، ينالون إنتاجية جيّدة، وتثبت العديد من الدراسات العلاقة بين رفاهية الموظفين والمدير الجيّد، كما يعتبر مشاركتهم في القرارات دليلاً على تقديرهم أيضاً، فوفقاً لاستطلاع Gallup، فإن العديد من الموظفين المشاركين يكونون أكثر إنتاجية بنسبة 18% وأكثر ربحية بنسبة 23%..
وبالطبع، هناك أسباب أخرى مثل خروج كل الأمور عن سيطرتك، أو رفع سقف طموحاتك عكس الواقع، وهذا ما يعيدنا إلى نموذج هولزي.
التخلص من الاحتراق الوظيفي
عند الاستسلام إلى السلببة الناتجة عن الاحتراق الوظيفي يمكننا طرح العديد من الأسئلة مثل: هل فعلاً يمكنني التخلص من هذه الحالة؟ كيف أطور من نفسي وأغيّر مسار حياتي في هذا العمر؟ كيف يمكني السيطرة على الأمور في حالة خروجها تماماً عن نطاق سيطرتي؟
والقائمة طويلة جداً من هذه الأسئلة، لكن هناك دائماً حل، أو هكذا يبدو فالمشكلات وُجدت مع حلها، لكنها تريدك أن تشاركها في لعبة “السلم والثعبان” المفضلة لديها. فاليوم أنت في الأسفل، بينما كنت الأمس على وشك الوصول، وهكذا. لكن الأمر الجيّد، أنه يمكنك ترك هذه اللعبة والاستمتاع بلعبة أخرى، أو الحركة وفقاً لخطط جديدة.
1- السفر
يمكن أن يحسّن السفر، خاصة للسياحة، الصحة البدنية بشكل كبير. فقد أظهرت الدراسات أن النساء اللواتي يقضين إجازة مرتين على الأقل سنوياً، يقل خطر إصابتهم بنوبة قلبية بنسبة 50% مقارنة بأولئك اللواتي يسافرن كل 6 سنوات. وبالمثل، الرجال الذين لا يأخذون إجازة سنوية يواجهون خطر الوفاة بنسبة 20%، وخطر الإصابة بأمراض القلب بنسبة 30%.
2- التأمل
عندما مارست اليوجا لأول مرة، بكيت لمدة ساعتين، لم أعرف السبب، لكنني شعرت بسلام داخلي، وتواصل مع حلول كل المشكلات التي كنت أمر بها. وعند البحث عن فوائد التأمل على الصحة النفسية والجسدية، خاصة أنه يُعرف بقدرته على تقليل القلق والتوتر، وجدت أنه وفقاً للجمعية الأميركية لعلم النفس، فإن التأمل الذهني يخفض مستويات التوتر ويحسن الرفاهية العامة. وتشير الأبحاث إلى أن التأمل يمكن أن يقلل من مستويات القلق بنسبة 60%، ويمكن أن يقلل التأمل من خطر الانتكاسات في الاكتئاب بنسبة تصل إلى 12% وقد يخفض ضغط الدم لدى 80% من الأشخاص الذين يمارسونه، ويقلل من خطر الإصابة بأمراض القلب بنسبة 87%، ويمكن لممارسة التأمل بانتظام أن تعزز الوظائف الإدراكية مثل الذاكرة والتركيز، فنحو 50% من الأشخاص الذين يمارسون التأمل تتحسن ذاكرتهم وتركيزهم.
3- شارك أفكارك
يمكن لمشاركة أفكارك التفريج عن طاقتك السلبية، وعندما يشارك الموظفون أفكارهم ومخاوفهم مع المدراء، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحسين الابتكار والأداء، ومن ثم، زيادة الإنتاجية وزيادة الرضا الوظيفي. ويمكن لمشاركة الأفكار مع المدراء أيضاً أن تقلل من مستويات التوتر والقلق بين الموظفين، فعندما يتبع المدير سياسة الباب المفتوح، يشعر الموظفون بأنهم مسموعون ومقدّرون، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحسين صحتهم العقلية وزيادة رضاهم عن العمل.
4- الكتابة
تُحسّن الكتابة من الصحة النفسية والعقلية بما ينعكس على الصحة الجسدية، فالكتابة عن التجارب السلبية أو المواقف المجهدة يمكن أن تساعد في تقليل مستويات التوتر والقلق. وتشير الأبحاث إلى أن الكتابة التعبيرية يمكن أن تقلل من القلق بنسبة 60%، إذ ينظم هذا النوع من الكتابة، الأفكار والمشاعر، ما يخفف من الضغط النفسي. ويمكن أن تزيد الكتابة من الوعي الذاتي، ما يساعد الأفراد على فهم أنفسهم بشكل أفضل. هذا الوعي يمكن أن يؤدي إلى تحسين الثقة بالنفس والقدرة على التحكم في المشاعر، علماً أن بعض الأبحاث تشير إلى أن الكتابة التأملية يمكن أن تعزز الوعي الذاتي وتقلل من الأعراض الاكتئابية والأفكار القلقة.
والآن، إن وجدت من يقول لك نظّم وقتك، أو تحدّث إلى دائرتك الاجتماعية، اعلم أنها خطوة جيّدة للتخلص من اليأس لكن بعد المضي قدماً من حالة الاحتراق الوظيفي، والانتفاض على سلبية الأفكار التي تنهش عقلك وروحك بسبب إرهاقك المستمر، هذه الحالة من الاحتراق الوظيفي لم أمر فقط بها، بل هناك الملايين حول العالم يعيشونها يومياً. والآن لا مجال للاستسلام، امسك قلمك واكتب عن نفسك، أو امسك حتى هاتفك وأكتب رسالة منك وإليك، خذ الخطوة الأولى لنفض غبار الاحتراق الوظيفي الذي يتغذى على طاقتك، وستعبر إلى بر بعيد عن الاحتراق واليأس. فقط عند هذه اللحظة ستعيد اكتشاف ذاتك من جديد، إما تعود إلى سابق عهدك من النجاح أو تبدأ حقبة جديدة من الإبداع، والجميل في الأمر أن الإبداع ساحة ترحب بالجميع في أي وقت.
اقرأ أيضاً:
قمة السجائر الإلكترونية 2024 تركز على أهمية البدائل منخفضة المخاطر
«آي صاغة»: الذهب يواصل التراجع بالسوق المحلية وعيار 21 عند 3385 جنيهاً
فيديكس تدمج إشعارات “واتساب” في الحل الرقمي لتسليم التجارة الإلكترونية للمستهلكين في السعودية